بقلم | بيتر سلمان
ولكنّا لا نعرف إلا القليل عن مات ديمون إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه أحد أعظم النجوم على مستوى العالم. وهذا ليس بمحض الصدفة، بل هو أمر مقصود. ففي مقابلة أجرتْها الغارديان معه مؤخّراً، أصرّ على أنّ الغموض عنصر أساسيّ في حياة الممثل، قائلاً، "كلّما قلّ ما يعرفه الناس عن حياتك الشخصية، كلّما كان أفضل بالنسبة لك كممثل، هذا أمر محسوم لا جدال فيه."
يتعمّد ديمون أن يبدو مملاً عندما يجيب عن أسئلة المقابلات التي تتطرّق إلى حياته العائلية. فعندما يكون في مقابلةٍ صحفيّة، تراه ممتنّاً لعدم طرح أسئلة عائلية. إنّه يلخّص موقفه على هذا النحو، "الأمر كما يلي، ’أنا متزوج، عندي أولاد، وانتهى الموضوع‘. وإنْ لم أصرّح أكثر من هذا عن حياتي العائلية، فلن يلاحقني الناس لمعرفة المزيد، أليس كذلك"؟ وحتى الآن، لم يحاول تغيير الوضع أبداً، فهو مسرور على هذا النحو.
إحدى نتائج العفوية والسلاسة في حديث ديمون، هي أنّك عندما تتحدّث معه، لا بدّ لك من أن تأتي على ذِكر بين أفليك. فهذين الممثلين مرتبطان جوهريّاً في أذهان الناس منذ بدءا مسيرتهما تحت الأضواء. يتجلّى هذا الارتباط في الواقع، وفي المجلات الفنيّة وفي نكات البرامج الحوارية التلفزيونية. لا يمكن أن تذكر أحدهما دون أن يخطر الآخر على بالك.
إذا كنتَ غير مُلِمًّ بتفاصيل القصة، فهي كما يلي: تعود الصداقة القوية بين ديمون وأفليك إلى عقود من الزمان، منذ كانا مبتدئان في بوستن يحاولان شقّ طريقهما نحو النجوميّة. وقد حصلا على بطاقتهما نحو النجومية من خلال فيلم غود ويل هانتينغ الذي يتحدّث عن الحارس الرائع. وقد تشاركا في كتابته والتمثيل فيه (إلى جانب روبين ويليامز، الذي حصل على جائزة الأوسكار الوحيدة التي نالها في حياته عن أفضل دور ثانويّ في هذا الفيلم). حيث حقّق لهما هذا الفيلم شهرةً واسعة كانا يطمحان إليها، ولم يكونا متوقعان أن يصلان لها.
حصل كلّ منهما من خلال هذا الفيلم على أوسكار أفضل سيناريو، حيث ألقيا أحد أفضل الخطابات في تاريخ الأوسكار على مرّ الزمان. كان خطابهما بحقّ دقيقتان عظيمتان من الهتاف المهتاج والقفز والمرح غير المسبوق. بدا عليهما صغر السنّ – أصغر من عمرهما الحقيقي في الواقع (كان ديمون في التاسعة والعشرين، وأفليك في السابعة والعشرين). والدتيهما كانتا تجلسان في الصفّ الأوّل، وكانتا تذكرانهما بما نسيا من كلمات، وبالتأكيد وجّها عميق شكرهما لهما. كان مظهرهما بريئاً بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى. ربما ليس من الملائم أن نعتبر بأن حياتهما كلّها قائمة على تلك الأمسية التي عاشاها منذ عشرين سنة، ولكن يستحيل علينا أن لا نفعل ذلك. كانت تلك اللحظة التي عاشاها على خشبة توزيع جوائز الأوسكار نقطةً فاصلة في حياتهما؛ حيث أنهما بعدها لم يعودا شابّين صغيرين على الإطلاق. كما أنها كانت آخر مرة تشهد علاقتهما اليومية الوطيدة. لقد اتّخذت الأمور مساراً مختلفاً بعد هذه اللحظة.
السبب الوحيد الذي يجعلني أفكّر الآن بصداقة ديمون مع أفليك هو أنه أتى على ذكر هذا الأمر أولاً. يتحدّث ديمون عن صديقه بين – وهو يكتفي بتسميته بين لأنه يدرك أنّي بالتأكيد أعرف عن أيّ بين يتحدّث – وعن مدى الارتباط العميق لبين بشهرة ديمون وعائلته وحياته. يبدو أنه حتى بالنسبة لمات ديمون لا يوجد مات ديمون بدون بين أفليك.
يقول ديمون، "تعود علاقتي مع بين إلى زمن طويل. لقد كبرنا معاً. وكان لدينا أستاذ عظيم درّسنا مادة المسرح في المدرسة الثانوية – إنه أستاذ قلّ مثيله – لقد أثّر فينا بعمق وغيّر حياتنا كلّياً. كان صارماً من ناحية محاولته استخراج أقصى الإمكانيات من طلابه، ولكنّ محبّته الكبيرة لنا كانت كفيلة بأن تدفعنا لنفعل ما في وسعنا كي نرضيه. وقد فعلنا ذلك حقّاً." كان هذا الأستاذ مصدر إلهامنا لفيلم غود ويل هانتينغ – إنْ لم يكنْ ملهمنا للفيلم ذاته فقد كان بالتأكيد ملهِمنا للأخلاقيّات المهنيّة التي يتطلّبها إنجاز فيلم سينمائيّ، تحديداً فكرة أنك إن سمحتَ لولعك بأن يقودك، وتابعت طريقك وِفقاً له، لا بدّ أن تحصد نتائجاً جيدة.
يقول ديمون، "عرفنا ما نريد مذ كنا مراهقَين. كان في الرابعة عشرة من عمره، وأنا في السادسة عشرة، وكنّا نذهب إلى نيويورك معاً. كنا من كمبريدج، ماساتشوستس، ولم يكن أيّ من أفراد أسرتينا يعمل في أي شيء يمت للتمثيل بصلة، كان والدينا يعملان في التدريس. وكان التمثيل رغبتنا العميقة، وهَوَسنا الدائم. وبما أننا كنا صديقين، وصداقتنا كانت تتمحور حول حبّ التمثيل، فكان كلٌ منّا يغذّي شغف الآخر ويدفعه إلى الأمام".
لم يتوقف أيّ منهما عن دفع الآخر للأمام. يقول ديمون، " كنّا غريبَي الأطوار قليلاً". أمضيا أغلب فترات الصباح الباكر خلال مراهقتهما مسافرَين في القطار إلى نيويورك للخضوع لتجارب الأداء، كانا ينامان على الكراسي في محطّات القطار. لقد بذلا كلّ ما في وسعهما ليحقّقا هدفهما. ثمّ أمضيا أغلب فترة العشرينات من عمرهما في كتابة (وتنقيح) سيناريو فيلم غود ويل هانتينغ. ولكن بعد خروج الفيلم إلى النور اختلفت السبل بأفليك وديمون لأوّل مرة في حياتهما. حيث اتجه أفليك إلى الأفلام المستقلة والمتواضعة والتي لم تلقّ استحساناً كبيراً: أرماجيدون، شكسبير إن لوف، وبيرل هاربر. بينما لمع نجم ديمون في أفلام رائعة إلى جانب أشهر النجوم مثل سيفينغ برايفت رايان، وذا تالينتد مستر ريبلي. تلقّى أفليك الانتقاد بينما تلقّى ديمون المديح. تراجع أفليك، بينما لمع نجم ديمون أكثر فأكثر. وانضمّ إلى براد بيت وجورج كلوني في فيلم أوشنز إليفين، ثمّ أطلق سلسلة أفلام التشويق الخاصة به والتي لاقت استحسان النقاد: ذا بورن آيدينتيتي.
تغيّر مفهومنا لأفلام التشويق (وأبطال أفلام التشويق) من خلال جيسن بورن، بطل فيلم ديمون الأخير – وبطل ثلاثة أفلام سابقة – حيث نرى حركة الكاميرا المهتزّة، والطريقة القديمة في العمل التي لا تستخدم صوراً معدّة بالكمبيوتر. جيسن بورن هو قاتل محترف يعمل لصالح وكالة الاستخبارات الأمريكية. ويسعى جاهداً ليكتشف هويته الحقيقية. باختصار، هو ليس شخصاً عادياً. ولكن عبر مسيرة أحداث أربعة أفلام حتى الآن، يأخذ جيسن بورن على عاتقه مهمة أن يتحوّل إلى شخص عاديّ. وخلال هذه المسيرة الغريبة، نرى أنّ جيسن بورن يشبه مات ديمون إلى حدّ كبير.
يَعتبر ديمون أنّ أفلام بورن تمسّه شخصيّاً. فقد رفعته هذه الأفلام إلى مصافّ النجوم الكبار مؤكّدة أنّ هذا الفتى النحيل القادم من أطراف بوستن قادر وحده وبدون مساعدةٍ من أحد أن يكشف شبكةً إرهابية عالميّة إنْ تركْتَه يفعل ذلك. ثمّ أتى الرجل الذي سمح له أن يفعل هذا؛ المخرج بول غرينغراس، وهو الشخص الوحيد الذي يوافق ديمون على العمل معه حول أي شيء مرتبط بشخصية بورن. نالت هذه النقطة الكثير من التغطية الإعلامية منذ بضعة سنوات عندما نزل فيلم جديد إلى دور السينما يحاول أن يكون تتمة لسلسلة أفلام بورن، ذا بورن ليغاسي، من بطولة جيريمي رينير وإخراج توني غيلروي. الآن وبعد الكثير من الكلام الذي يندرج تحت إطار العلاقات العامّة، وبعد اعتماد قصةٍ جديدة كليّاً، يعود فريق بورن الأصلي من جديد. يقول ديمون، "هناك صداقة تربطني مع بول، وكلانا يحبّ العمل مع الآخر، نحن نعاود نقاشنا لفكرة فيلم جديد ضمن سلسلة أفلام بورن عدة مرّات كل سنة، ولكنْ مضتْ تسع سنوات قبل أن نشعر بأننا وقعنا على قصّة مناسبة. بطريقة ما، علينا انتظار تغيّر طفيف في العالم لنحصل على مسارٍ قصصيّ جديد."
أما الجانب الآخر من الموضوع فهو يتجلّى في حقيقة أنّ كل أفلام بورن التي قام ببطولتها ديمون تتمتّع بصفة الضرورة الملحّة. تعتمد كلها على المواضيع العالمية الساخنة عند إعداد الفيلم، معالجة المشاعر المتوترة لعالم يخوض حرباً ومليءٌ بالتوتر على الدوام منتظراً الضربة الإرهابية القادمة أو مطلق النار الطائش التالي ليحتلّ عناوين الصحف، أو الأسوأ من ذلك، ليحتلّ مدننا.
يقول ديمون، "لدينا أسئلة أكبر حول الاتجاه الذي يتّخذه العالم من حولنا، وحول الدور الكبير للتكنولوجيا في تغيير حياتنا، وما ينتج عن هذا التغيّر الكبير والسريع من تداعيات. إنه أمر مثير، ولكني أعتقد أنّه على الأغلب يخلق شعوراً من القلق. يجب أن تكون تجربة بورن انعكاساً لهذه الأمور".
وكما هو الحال مع بورن، يعمل ديمون على الدوام ليتخلّص من شعور القلق هذا. ينتج هذا القلق بالنسبة له من شهرته التي تبدو طبيعية تماماً أمام عدسة الكاميرا أو في المقابلات التي يجريها، ولكنها مصدر قلقه على الصعيد الشخصي. لقد تزوّج امرأة بعيدة عن المجال الفني، وهو يحاول على الدوام حماية أطفاله من الوقوع تحت ضوء الصحافة والإعلام قدر استطاعته. يعود سبب ذلك إلى أمرين؛ أوّلهما، لأنّ طبيعته هكذا، وهكذا يحب أن يعيش، وثانيهما لأنه شاهد أمثلة حية على التأثير المدمّر للشهرة عندما تكشّر عن أنيابها سريعاً. يقول ديمون، "ما زلت أذكر عندما كان بين يتعامل مع كل تلك الأمور المتعلقة بالصحف الصفراء في بدايات العقد الأول من هذا القرن، وكيف كان يستاء قائلاً ’يا إلهي، إنّ هذه حلقة مفرغة من الصراعات التي لا تهدأ‘". إنّه يتحدّث بالطبع عن علاقته الغرامية البائسة مع جينيفر لوبيز، التي كانت تظهر معه في الحفلات، والضغط الشديد الذي تعرّض له بسبب ذلك لأن تعامله مع الصحافة لم يكن مشابهاً لطريقة مات ديمون. فلطالما كان لقصة الصديق العزيز هذا جانباً سلبياً أيضاً.
وكما هو الحال مع بورن، يواجه ديمون العقبات عند كل منعطف في حياته. أكبر هذه العقبات كما يبدو هو عامل الزمن – فكلما أمضى وقتاً أطول كنجم سينمائي، ازدادت صعوبة أن يعيش حياة طبيعية. ما يزال ديمون يتابع عمله، وما يزال مشهوراً بعد 20 عاماً من فيلم غود ويل هانتينغ – وبعد 14 سنة من فيلم بورن آيدينتيتي. أصبح مشهوراً على شاشات أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط وفي كل مكان يخطر على بالك. يمكنك أن تنظر إلى ديمون على أنه الفتى القادم من بلدته الصغيرة ساعياً وراء الأضواء اللامعة وفرص النجاح الكبيرة، ولكنه في أعماقه لم يغادر بوستن مطلقاً إنه يشبه تعويذة الحظ الطيّب التي تعبّر عن كلّ ما هو عظيم وطيّب في بلدته التي نشأ فيها.
لقد مرّ زمن طويل على مغادرته بوستن وعلى المقالة التي كتبها في مدرسته الثانوية والتي افتتحها بالعبارة التالية، "منذ نعومة أظفاري، أحلم أن أكون ممثلاً". إنّ الزمن هو المفارقة الخاصة بهوليوود: فبعد أن تُمضي عمرك مكافحاً للحصول على النجاح والشهرة، تجد أنّك بعد حصولك عليهما تضطرّ لإيجاد طريقة للتعايش مع عبىء نمط حياتك الجديد. حيث بلغ درجات عالية من النجاح هذه السنة، فالأمر لا يقتصر على أنّه نجم التشويق الأوّل حالياً، ولكنّ صديقه المفضّل أيضاً يعيش أفضل حالاته – ديمون هو الآن الصديق الحميم لباتمان الذي يلعب دوره بين أفليك . (هناك سبب وجيه لحصول فيلم باتمان على أوسكار أفضل إخراج إذاً). أمّا الأمر الآخر المرتبط بموضوع مفارقة الزمن فهو قدرته الكبيرة على تغيير معتقدات الناس وآرائهم ومساراتهم. ديمون وأفليك الآن هما مجرّد شخصين في أواسط الأربعينات من العمر، يتمتّع كل منهما بكونه في ذروة مسيرته الفنيّة. إذاً، لم يعد مات ديمون مِثل الناس الآخرين العاديين، وهو يعرف ذلك حقّ المعرفة. لكنه بشكل ما يمكننا القول أنه الآن ما يزال يحافظ على ما كان عليه طوال عمره.
يقول ديمون متأنياً في حديثه، "لقد تناقشت مع بين حول هذه النقطة: عندما ننظر إلى الخلف، ندرك كم كنّا يافعين، مع أننا لم نكن ندرِك ذلك في حينه. إنّك لا تدرك ذلك أبداً، أليس كذلك"؟ إنه على حق بالطبع. وهذا أمر طبيعي تماماً.