مع فيلمٍ جديد، وحملةٍ إعلانيّةٍ مميّزة، والكثير من الوقت لتحقيق ذاته، يبدو أن الممثّل الأمريكي والإبن المفضل لتكساس قد وجد نفسه أخيراً
يحدّثني ماثيو ماكونهي عن فلسفته في الحياة وعن الأبوّة ومعنى النجاح، فيما يجوب لساعات، الطريق السريع في ولاية تكساس
يقول ماكونهي بصوت رخيم سلس، وبلكنة فيها نغمة جذّابة خاصّة بأبناء تكساس: «لقد تعلّمت بعض الأمور التي تستحقّ المشاركة.» هنا، كنت أتخيّله كما ظهر في إعلان سيارات لنكولن. ولكنّي أعلم بأنه لا يرتدي تلك البذلة الغامقة نفسها كما في الدعاية. بل هو يعتمر القبّعة السوداء الخاصّة بسائقي الشاحنات، وقميص بلون برتقالي باهت تحمل إسم مؤسّسته وشعاره الخاصّ «إبقَ عائشاً». هو لا يتحدّث للكاميرا. هو يتحدّث إليّ، عبر الهاتف وموجة بلوتوث. بين حين وآخر من الحديث معي، يتوقّف قليلاً ليتكلّم مع إبنه ليفي الجالس في المقعد جنبه والبالغ من العمر 8 سنوات
الأب والإبن في طريقهما معاً من أوستن، حيث يقيمان، إلى أرلينغتن، ليشاهدا مباراة البايسبول التي يتواجه فيها فريق تكساس رينجرز وفريق لوس أنجلس أنجلز أوف أناهايم. وحضور هذه المباريات هو من أشهر التقاليد التي تقوم بها العائلات في ولاية تكساس في فصل الصيف. غير أن في الأمر ما يزيد عن مجرّد كونه تقليد بالنسبة لماكونهي، إذ أن فريق الرينجرز يستضيفون في الوقت نفسه حدثاً لدعم مؤسّسة «إبقَ عائشاً»، وعلى ماكونهي أن يحضر موعداً لجلسة تصوير مع المتبرّعين وأن يتواصل مع الطلّاب المحلّيّين قبل المباراة. أمّا وفي طريقه إلى هذا الموعد، فهو في مقابلة معي من السيارة لغلاف هذه المجلّة بالذات
ما من شيء يقوم به ماكونهي يكون بسيطاً وأحاديّ التوجّه. ولذلك يمكن اعتباره ربّما من أكثر نجوم هوليوود وساعةً في الفكر والعمل والنشاط. فعلى مدى العامَين الماضيَّين، علّم ماكونهي صفوفاً في جامعة تكساس في أوستن، جامعته، وألقى خطابات حماسيّة تحفيزيّة لفرق الفوتبول في المدارس. وكان مشجّعاً متفانياً لفريق الولايات المتحدة الأمريكيّة خلال الألعاب الأولمبيّة في ريو. ومن ثم ظهر في إعلانات ماركة لنكولن، التي شكّلت مادة إعلاميّة دسمة تناولتها كافة البرامج الحواريّة الليليّة التي تهكّمت به بسبب ذلك. وفي الوقت نفسه، كانت شعبيّته تزداد ليصبح محبوباً جدّاً بفضل شخصيّته وقدرته على الإنخراط في النشاطات العشوائيّة
وهكذا نال ماكونهي، البالغ من العمر 46 عاماً، قبل عامين جائزة الأكاديمي لدوره القويّ في فيلم «دالاس بايرز كلوب»، معلناً بذلك عن بلوغه القمّة فبي مسيرته التمثيليّة، ومبتكراً ما يمكن أن يسمّى بالخاصيّة «الماكونهيّة». ولكنّه، بعد النجاح والشهرة، يطرح على نفسه سؤالاً جدّياً: كيف له أن يشقّ طريق العودة إلى هوليوود بنفس القوّة والعزم؟ وإلى أين يتجّه بعد أن بلغ أصلاً القمّة في المرة الأولى؟
إلى الآن، لم يلقَ ماكونهي إجابة وافية عن سؤاله. لا سيّما وأن فيلمَي الإثارة والتشويق، «ذو سي أوف تريز» و»فري ستايت أوف جونز» ، اللذان أطلقهما منذ فيلمه «إنترستيلر» في عام 2014، اعتُبرا كدعسة ناقصة في مسيرته كممثل مشهور. تعرّض الفيلم الأوّل لصيحات الإستهجان وسخرية النقاد في مهرجان «كان»؛ أمّا الثاني، الذي يتناول موضوع الحرب الأهليّة الأمريكيّة فلم يلاقِ النجاح المُتوقّع له. نتيجةً لذلك، بدأ نجم الممثّل الأمريكي بالتراجع شيئاً فشيئاً
ولكن يبدو أن هذا التراجع سيتوقّف عند حدّه بفضل الفيلم الحالي «غولد» Gold . فهذا الفيلم الجديد، المبنيّ على قصّة حقيقيّة يدعمه المنتج القويّ هارفي وانستاين، وتتكرّر الأصداء حوله منذ الآن حول إمكانيّة ترشيحه لجائزة الأوسكار. بمعنىً آخر، يبدو بأن هذا الفيلم هو الذي سيعيد مهنة ماكونهي إلى مسارها كما يجب
في عودةٍ إلى الحديث عن شخصيّة ماكونهي، يمكن للمشاهد المطّلع أن يفهم كيف أنّها تبلورت منذ ظهور الممثّل الأول في فيلم «دايزد أند كونفيوزد» عام 1993، وهو يلعب شخصيّة مثير المشاكل الجذّاب بجملَتيه الشهيرتَين «حسناً، حسناً حسناً»، و إبقَ عائشاً ، الجملة نفسها التي أصبحت لاحقاً إسم مؤسّسته
في ذلك، لم ترحم الحياة ماكونهي كثيراً. فبعد أيّام قليلة فقط من بدء تصويره الفيلم، خسر والده، جيم، وكان ماكونهي لا يزال في ال22 من عمره. اشتُهر وقتها خبر مفارقة ماكونهي الأب للحياة خلال ممارسة الحب مع زوجته، الذي تزوّجها ثلاثة مرّات بعد أن تطلّق منها مرتين. ومعروفٌ أنه، خلال حياته، التحق بصفوف فريق الركبي «غرين باي باكرز» وانسحب منه قبل أن يلعب في أيّة مباراة. وبحسب ابنه ماثيو، كانت يحلم بأن يصبح ثريّاً، ولو بطرق غير تقليديّة. يقول ماكونهي: «كان أبي على وشك أن يكون رجل مافيا، أفهمتِ ما أعني بذلك؟ اشترى مرّةً ساعة من رجل في شاحنة بيضاء كان يرهن مجفّفات للشعر وآلات الغسيل. كان من المفترض أن تكون قيمة الساعة حوالي 22 ألف دولار، واعتقد والدي حينها بأنه قام بصفقة جيّدة. في إحدى المرات أيضاً، استثمر في منجم ألماس في الأكوادور. ولكن لا ألماس في الأكوادور! غير أن ما كان يهمّ والدي هي المغامرة. هذا ما كان يجذبه. كان يفضلّ أن يقوم بصفقة سيئة ويخسر ماله على أن يقوم بصفقة جيّدة بطريقة مضجرة
يعترف ماكونهي بأن شخصيّة أبيه الجريئة كانت حاضرة تقريباً في كلِّ من أدواره الكبيرة: دور راست كول في المسلسل «ترو ديتيكتيف» ، دالاس في «ماجيك مايك» ، رون وودروف في «دالاس بايرز كلوب»، ومارك في «ذو وولف أوف وول ستريت». كلّها شخصيّات حالمة ومتوهّمة
يقول ماكونهي: «أحبّ هذا النوع من التحدّي، إنه شيئٌ يدفعني لتخطّيه. إنّه من غير الواضح في العديد من الشخصيّات التي ألعبها، إذا كانت ستعيش أم لا. عليها أن تقاتل للبقاء على قيد الحياة. أحبّ المنبوذين الذين لا يعيشون بحسب الأعراف الإجتماعيّة أو النِّعم الممنوحة. يعيشون جانباً. يخوضون اللعبة – الحياة – بحسب قواعدهم الخاصّة بهم
بناءً على ذلك، يفهم المرء ما جذب ماكونهي في فيلم «غولد»، حيث انصبغت شخصيّة كيني ويلز، بطل الفيلم، بالصبغة «السكورسيزيّة» (أي بالنسبة إلى المخرج المعروف مارتن سكورسيزي وانتقائه لشخصيّات في أفلامه يشوبها التوهّم والأحلام الفاهية). كيني ويلز هو رجل محتال ذو حظ عثير يكتشف الذهب في عمق أدغال أندونيسيا. لكي يلعب ماكونهي الدور، جُعِل أصلعاً واضطرّ إلى زيادة وزنه 50 باونداً
يعلّق ماكونهي: «إنها من المرات القليلة التي أقرأ فيها نصّاً وأشعر فوراً بأن الدور لي. لقد أغرمت بشخصيّة كيني ويلز. هو حالم حقيقيّ، بائع حقيقي. لديه جملة عظيمة: عصفور بلا رِجْلَين ينام على الرياح. فإذا هو حطّ على الأرض، يموت.» ويتابع: «عليك بأن تواصل رمي الكرة والتقاطها مراراً وتكراراً. وهذا ما يفعله كيني ويلز
بعد أن أصبح في التسعينات الممثّل الشاب الأكثر وعداً من بين أبناء جيله، بفضل أدوار مثيرة أولاه إياها ستيفن سبيلبرغ، رون هاورد وروبرت زيميكس، وجد ماكونهي نفسه عالقاً بعدها في سلسلة من الأدوار الكوميدية السطحيّة في الأفلام «ذو ويدينغ بلانر»، «فايلور تو لاونش»، و «غوست أوف غيرلفريندز». بحلول عام 2010، ونتيجة هذه الخيارات، أجمعت الأغلبيّة على أنّ ماكونهي قد هدر موهبته العظيمة
أمّا ماكونهي نفسه، فأراد أن يعكس هذا الواقع. فشرع بعودته البطيئة إلى قلب هوليوود، بعد أن نُبذ منها، عبر انتقائه بحرصٍ الأدوار التي سيلعبها، والأوفى للخاصيّة «الماكونهيّة». بات «يرمي بالطابة ويلتقطها»، أي يفلح في دورٍ بعد دور ويتلقّى الإنتقادات اللاذعة، إلى أن وصل إلى حيث هو الآن مع فيلمه الأخير الواعد بجائزة التمثال الذهبي، الأوسكار
يدّعي الآن بأن هذه العودة لم تكن جزءاً من خطة كبيرة، ولم تكن لديه «أيّة توقّعات»، بل كان بكلّ بساطة جاهزاً للقبول بأفلامٍ تثيره حقّاً، كما في فيلم غولد»
الوزن الزائد والصلعة ومكان تصوير الفيلم، كلّها مواد ترشّح الفيلم لنيل الأوسكار، تماماً كما حصل لفيلم «دالاس بايرز كلوب» حيث اضطرّ ماكونهي إلى أن يخسر الوزن الكثير مغيّراً بذلك جسمه وهيئته بطريقة جذريّ’، أكسبته جائزة الأوسكار كأفضل ممثّل في دور البطولة
أما في «غولد»، فكانت زيادة الوزن أسهل من خسارته. يصف ماكونهي حميّته بكلمتين: «برغرز وبيرة» بالإضافة إلى قوله «نعم» لكلّ شيء خلال خمسة أشهر. هنا، أسمع ليفي يقول من مقعده: «أريدك أن تلعب شخصيّة ثانية ككيني ويلز، يا أبي. كنت مسليّاً جدّاً
ولكنّ الأهمّ، حين تشاهد ماكونهي يلعب الدور في هذا الفيلم، هو الوسع الهائل للشخصيّة التي يمثّلها والتي لا يقدر عليها إلا الممثّل المحترف. يعود ماثيو ماكونهي في هذا الفيلم ويبرهن على أنه أكثر من مجرّد وجه جميل، ويتجاوز كونه ممثل جيّد فحسب ويتّحد مع داخله كممثّل فيه شيء من غرابة الأطوار. وإذا دلّ «غولد» على شيء، فعلى أنّ العقد القادم سيكون مثمراً لمسيرة ماكونهي الفنية. ولكنّ، وكما هي الحال دائماً مع ماكونهي، لا تنتهي القصّة معه هنا
«غولد» هو فعلاً أحد مشاريع ماكونهي الأكثر تداولاً، ولكنّه ليس أكثرها شخصيّة
ولا أخصّ بذلك فيلمَي الرسوم المتحرّكة، كفيلم «سينغ» حيث يضع صوته على شخصيّة كوالا متفائل يحاول أن ينقذ مسرح عائلته، ولا فيلم «كوبو أند ذو تو سترينغز»، مع أنّ ماكونهي فخورٌ بأنه مثّل أخيراً في أفلام ملائمة يمكنه أن يشاهدها مع أولاده الثلاثة
ولكن أعني بالتحديد الحملة الإعلانيّة الحاليّة التي يعتبرها المشورع الأقرب من قلبه. كان قد أعلن في وقت سابق من عام 2016، عن إمكانيّة ماكونهي في أن يصبح المدير الإبداعي لماركة الويسكي «وايلد توركي»، بعد أن تواصلت كامباري، الشركة الأم لـ»وايلد توركي»، مع ماكونهي ليظهر في بعض إعلاناتها. ولكن كانت لماكونهي طموحات أكبر
عن ذلك، يقول بنبرة حماسيّة واضحة: «لم أرد أن أكون فقط وجه الماركة. فلا أحد يريد أن يقول له ممثل ما في إعلان من 30 ثانية ، ما عليه أن يشرب. لديّ أفكار. يهمّني جدّاً أن أخلق جوّاً، حركة، مغامرة
رمى ماكونهي نفسه كليّاً في هذا العمل، فأخرج وثائقيّاً قصيراً في مقطّرة «وايلد توركي» في كنتاكي، ويقول بأن لديه أيضاً أفكار لدفع العلامة التجاريّة إلى الأفضل. قالت ميلاني باتشلر، نائبة رئيس كامباري، لصحيفة نيويورك تايمز عن التعاون في شهر آب: «لقد حصلت على أكثر ما فاوضت عليه، ولكنّ بطريقة رائعة. شخصيّاً لقد أتحفني تماماً بمستوى التزامه
وكانت الحصيلة فيلماً من ثلاثين ثانية، من تصوّر ماكونهي، كتابته، إخراجه وبالطبع، تمثيله. وفيه، تظهر امرأة تتمايل في حفلة عامرة، قبل أن تتوجّه خارجاً وفي يدها كأس وايلد توركي. تناول ماكونهي الكأس وهو جالس تحت شجرة يلعب البيانو. ومن ثمّ تظهر جملة «سوف تجدك» كشعار في آخر الإعلان
«الفكرة هي أنك إذا كنت أصيلاً، فلا تحاول أن تكون شخصاً آخر غير نفسك. إذا كنت تهتمّ بما يخصّك وتقضي وقتاً مرحاً، فستظهر أمامك امرأة في تنورة سوداء تجلب لك كأس وايلد توركي. سوف تجدك
فكرة الأصالة هذه، تبدو لي وكأنها تحفّز ماكونهي في كلّ ما يُقْدم عليه. يقول: «أحاول أن أعرف نفسي قدر المستطاع. هذا ما يقوله مالكوم أكس، صحّ؟ إعرف نفسك أيها الرجل. إنه تحدّي دائم لأن الحياة تتغيّر دائماً. تفشل. أجربّ الأشياء التي لا تعمل. في مجالات كنتُ كسولاً وخانعاً. لم أكن بالتأكيد أعرفها. ولكنّ الأمر يُكتسب إنشاً بعد إنش. عليك أن تثابر في العمل. لأن أيّ موضوع غير «أنفسنا»، هو أفضل لمعرفته؟
أسأله عمّا يعرفه حقّاً عن نفسه في هذه المرحلة من حياته
يقول: «أعرف أين هو موقعي. أعرف بأن لديّ الكثير بعد لأحقّقه قبل أن أنتهي. أعرف بأني محظوظ بزوجةٍ لا تريد أن تغيّرني. أعرف بأن لديّ أشخاص في حياتي - أوه إنتظري لحظة
يُنزل الهاتف عن أذنه. عند هذه المرحلة من المقابلة معه، كان قد وصل وابنه إلى بارك غلوب لايف، مدرّج فريق الراينجرز، ويمكنني أن أستنبط قليلاً الضجيج المعتاد في المدرّج ما قبل المباراة: أناس يهرعون إلى مقاعدهم، إلى الحمامات؛ إعلانات تصدح عبر مكبّرات الصوت، بائع للجداول يحاول أن يعقد صفقاته
أسمع ماكونهي يسأل ابنه: «أتريد شيئأً لتشربه أم تكفيك أصابع الدجاج؟» يعود إلى الإتصال الهاتفي معي بعد ذلك، لينهي المقابلة طبعاً. ولكنّه كان قد أعطاني بذلك إجابةً وفيّةً عن سؤالي