في مثل هذا الشهر منذ خمسة عشر عاماً، قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان، كانت تلك بداية عقدين من الحرب الوحشية التي تدور رحاها على الجانب الآخر من العالم. عمل كيفن باترسون هناك، كطبيب في القوات المسلحة الكندية – وهنا يعود بذاكرته لتلك الفترة ليسترجع ما رآه، وليأخذ دروساً من التاريخ
تُشعرك الحرب الفاشلة بكآبة مخزية تتسلل إلى أعماق روحك، وتسكن هناك طويلاً. عليك التمرّد على سيطرتها على روحك ومحاولة تناسي الأمر – افترضها قصة حب فاشلة مررت بها، أو إحدى مخالفات السيارة بسبب السرعة المجنونة التي تلقيتها في العشرينات من عمرك. إنها سيئة لكن لا يمكنك فعل شيء حيال ذلك الآن
لا تشبه الحرب الخاسرة الطموحات المحبطة الأخرى، فهي ليست مجرد جهد حماسي سيء الطالع أدى للخسارة في مباراة الركبي. لقد ارتكبت شرور فظيعة، في محاولة لتحقيق الخير المنشود. وبغض النظر عما إذا كانت حرباً مبررة، لو أننا انتصرنا فيها، دون أي شيء لتحقيق الموازنة مع تلك الشرور، لظلّت تلك الشرور جاثمة على قلبنا موجهة إصبع الاتهام نحونا. عندما أستخدم كلمة «الشرّ» هنا فأنا أقصد أموراً عدة، من بينها أشلاء الأطفال، تبقى صورها جاثمة على قلوب المقاتلين فيما بعد لترغمهم على التفكير في الأمور أخرى. ولتجعلهم يجدون صعوبة في التأقلم مع حياتهم الخاصة والزوجية لاحقاً
الآن وبعد مرور سنوات على تلك الحرب، يبدو أنه على المرء أن لا يشيح بنظره بعيداً عنها. تنظر البلد كلها إلى ما حدث فترى أن الأمر كان أسوء بكثير مما كان مفترَض. إنّ تغطية حرب خاسرة أقل فصاحة وسلاسة من تغطية حرب ما تزال مشتعلة. وبالنسبة لأولئك الذين أيدوا الحرب، وخاضوها، لا تهتموا لأن الاعتراف بفشلها عادة ما يكون هادئا. أما بالنسبة لأولئك الذين عارضوها، احذروا، الاحتفال مستحيل – حيث إن الأمر يتعدى بكثير قضية فوزٍ في استفتاء، أو إلغاءٍ لقانون جائر. إننا نتكلّم هنا عن آلاف القتلى الذين رحلوا مجاناً، لم يكن هناك أي داع لموتهم. وبعد فترة الحداد الصامت تأتي فترة إمعان النظر مع كلّ ما في ذلك من ألم، فالصورة جديرة بأن تكون لوحة فنية صادقة معلقة على جدار لا تلائم خطاباً سياسياً. فنرى أفلاماً مثل ذا دير هانتر، 1978، أول كوايت أون ذا ويسترن فرونت، 1929، أو أفضل كتاب يؤرّخ لحرب خاسرة، وأكثرها كآبة: تاريخ ثيوسيديدز للحرب البيلوبونيسية 400 قبل الميلاد. نحن لسنا أول دولة تعود إلى رشدها من خلال تحليل حربها الخاسرة، ففي النهاية جميعنا يقوم بذلك
متى ستتحقق العدالة في أثينا؟ سيكون هناك عدالة في أثينا عندما يشعر الناس بآلام بعضهم فترى الذين لم يصابوا بأذى غاضبين للأذى الذي أصاب غيرهم / ثيوسيديدز
حتى في وقت لاحق، عندما نستعيد ما حدث، نرى أن ما فعلناه كان أمراً لا مفرّ منه، أو شيئاً من هذا القبيل. عندما انفجرت الطائرات في بُرجَي التجارة، كان الأمر أشبه بتوجيه لكمة سريعة تُفقِد الإنسان توازنه. ولبرهة، خيّم صمت مطبق، كان من الصعب على المرء حتى أن يتنفس. ثمّ فجأة ثار البركان الغاضب يموج بمخاط دموي يتدفق من وجوهنا. كل ما استطعنا فعله كان أن تجوب عيوننا الجاحظة السماء لنرى الطائرات التي ارتكبت ذلك. ومضت عقود طويلة من الهدوء والعزلة في نصف الكرة الأرضية الشمالي الذي يضمّ أمريكا الشمالية. حيث لم تحصلْ خلالها أية هجماتٍ. وفجأة نرى أسوأ شيء يمكن أن نتوقعه. مطلقاً، نفاجأ بالأسوأ يحصل أمام أعيننا. فحتى لو لم يكن هجوماً على كندا بالضبط، لكنه هجوم على أفضل صديق لدينا، أمريكا، كما أن الهجوم أسفر عن 26 ضحية كنديين، دفنوا تحت الانقاض
جُنّ جنون صديقتنا أمريكا، وبالطبع، وقفنا إلى جانبها. وفي غضون بضعة أيام كشفوا عن الجاني المتمثل بتنظيم القاعدة. وعرضوا أمامنا صور السعوديين التسعة عشر، وأخبرونا كيف أنهم التحقوا بمدارس الطيران، وتحاشوا أن يتعلموا كيفية الهبوط. لأكثر من عقد من الزمان كانت تُعتبَر أفغانستان صومالاً أخرى، وكأنها أدغال موحشة حيث تتربّع الوحوش. ولذلك اتجهت صديقتنا أمريكا إلى أرض الوحوش. وكنا معها بالطبع، لإلحاق الضرر بتنظيم القاعدة. وبينما كنا في خِضَمّ ذلك، أخرجنا كل الأفاعي من أوكارها
هناك القليل فقط من جحافل المحاربين الكبيرة، اليونانية أو البربرية، التي حققت انتصارات بعيداً عن وطنها، إذ لا يمكن أن تكون هذه الجحافل أكثر عدداً من أهل البلاد وجيرانهم، الذين وحّدهم الخوف. وإذا ما فشل المهاجمون في الحصول على الإمدادات في أرض أجنبية، كان النصر والشهرة حليف أصحاب الأرض الذين تأذوا من ذلك الهجوم. وهكذا انتصر الأثينيون وارتفعت أسهمهم بسبب هزيمة الفرس. كان انتصارهم يعود بدرجة كبيرة إلى أسباب عارضة تكمن في أن أثينا كانت هدفا للهجوم / ثيوسيديدز
لقد كانت هذه الحرب مختلفة عن سواها. بدا في الشهور القليلة الأولى أنّ طالبان تنهار، ولم تقع أية إصابات تُذكَر في الطرف الأمريكي: كان هذا أمراً لم يسبق له مثيل. كنا متأكدين أنّ الأمور تسير على هذا النحو لأن هذه الحملة الأمريكية كانت نبيلة ومُحقّة بشكل لا مثيل له في التاريخ. انظر إلى ما فعلته طالبان بمعلمي المدارس، وبالفتيات، انظر إلى أعمدة الدخان المتصاعدة من الحي المالي، فاينانشال ديستريكت، الذي ضربوه بالطائرات. لم نكن هناك للحفاظ على مصالحنا الاستراتيجية الخاصة، أو للحصول على غنائم. كنا هناك من أجل العدالة
ثم وقعت أول وفاة في صفوف المهاجمين الغربيين. كان أحد ضباط وكالة المخابرات المركزية، جوني سبان، قتل في 25 نوفمبر 2001 عندما انتفض الآلاف من المقاتلين المستسلمين إلى الإحتجاج في سجن بالقرب من مزار شريف. وقد لاقوا حتفهم بعد بضعة أيام عندما تم تحميل 7000 سجين منهم في حاويات للشحن، ليتم نقلهم إلى سجن في الجنوب. حُشِر مائتين وعشرين سجيناً في حاوية ومُنِع عنهم الماء، ومكان الحركة، بل حتى الهواء الكافي، ولقى جزء كبير منهم حتفه، بسبب النوافذ المغلقة. ربما مات الآلاف. لم يكن هناك إحصاء لعدد الجثث. ولم يهتمّ أحد للأمر عندما أعلن عنه. إنها تسمى مجزرة دشت ليلي. وهي من الأمور التي تحدث في كل الحروب
وعلاوة على ذلك، أنا أعرف طابع الشخصية الأثينية من خلال احتكاكي بهم: أنت تحبّ أن تتلقى أخباراً سارة، ولكن عندما تتخذ الأمور مساراً مختلفاً عن ذلك، تلقي باللوم على من أخبرك. لذا أعتقد أنه من الآمن لي أن أتركك تعرف الحقيقة بنفسك / ثيوسيديدز
بلمح البصر، شقّ أسامة بن لادن طريقه إلى كهوف تورا بورا. وكان قرارنا أن الشرّ الذي تمثله حركة طالبان يتساوى مع الشر الذي يمثله تنظيم القاعدة. فبعد تحليل الأمور نرى أنهم منحوا القاعدة العون اللازم. لقد كانوا على علم بما تنوي القاعدة فعله ولو بصفة عامة على الأقل. نعم، قد خططوا للهجمات في هامبورغ. ونعم، أمدّ باكستان القاعدة بالعون كما فعلت حركة طالبان دوماً. بل ربما أكثر. والأكثر من ذلك، ربما تحمّلتْ طالبان وجود القاعدة في المقام الأول لأن المخابرات الباكستانية طلبت منهم ذلك. ومع ذلك ما تزال حركة طالبان تمثّل الشر أيضاً، و هي خاضعة للمساءلة عن كل ما جرى. وعلى أي حال، كان يستحيل الوصول إلى بن لادن في ذلك الوقت. كما أنّ باكستان هي قوة إقليمية كبرى
الحق، كما تفرض نواميس هذا العالم، هو مسألة يُنظَر فيها بين طرفين متساويين في القوة، أما بالنسبة للقوي، فهو يصنع ما يشاء، في حين أن الضعيف مرغم أن يعاني ما لا بد منه / ثيوسيديدز
ثم تراجع بن لادن ورفاقه بعيداً إلى وزيرستان. فحوّل الغربُ اهتمامه من الهدف الحقيقي إلى الهدف الذي يمكن تحقيقه. وهكذا تمّ زرع بذور الحزن الذي سيحلّ لاحقاً
كانت الصورة شديدة الغموض لأي مراقب خارجي. في اليوم الذي بدأ فيه كل شيء كنت في القطب الشمالي، في مدخل رانكين على الساحل الغربي لخليج هدسون. كنت أحاول تأمين إخلاءٍ طبيّ لبعض المرضى لديّ إلى وينيبيغ عندما تمّ منع كل رحلات الطيران في القارة. كنا في أوائل سبتمبر، وبدأ الشتاء بالفعل. اتصلتْ بي زوجتي من جزيرة سالتزبيرغ لتسألني عما كان يحدث. كل ما كنتُ أعرفه أن هناك ثقوب في الأرض في واشنطن وبنسلفانيا ونيويورك. كان هذا كلّ ما يعرفه الجميع. اعتقد الناس أنّها نهاية العالم. يمكن بالطبع تفهّم وجهة نظرهم. كنت أشتعل غضباً مثل أيّ شخص آخر
كنت في السادسة والثلاثين من عمري عندئذ – مجنداً احتياطياً في فوج المشاة، ومن ثم ضابط برتبة ملازم ثان، ثم ضابطاً طبياً في فوج المدفعية، ثم ضابطاً برتبة نقيب، في الثمانينات وأوائل التسعينات. كانت كل استعداداتنا العسكرية موجهة ضد الجيش الأحمر لسنوات طويلة، ثمّ اختفى الجيش الأحمر. وعاد السلام الذي صنعه كلينتون على أمريكا بمكاسب جيدة. وثار غضب الفرنسيين بسبب مفهوم القوة العظمى أو القطب الواحد، ولكن مع ذلك، تم الإعلان عن بداية حقبة تاريخية جديدة
ومن ثم تكشّفت خفايا اللغز. كانت شقتي في القطب الشمالي صغيرة ويصعب حمل المكتبات في الحقائب، وبالتالي كانت الكتب التي انتقيتها لترافقني هناك من العيار الثقيل والتي تحتاج إلى قراءة متمعنة لأكثر من مرة. كنت قد اشتريت أول كتاب للكاتب الإغريقي ثيوسيديدز من المكتبة الموجودة عند الحدود في ليهو، كاواي قبل انطلاقي عبر شمال المحيط الهادئ وحيداً في مركب شراعي صغير. كنت في حاجة إلى شيء يأسر انتباهي ليصرفني عن الفراغ الممتدّ حتى الأفق وصمتِ العزلة القاتل. لم يكن لديّ اطلاع كبير على كتب ذلك الكاتب الكلاسيكي وقد فاتني قراءة الكثير مما كتب بلا شك، لكنه بالتأكيد الكاتب الكلاسيكي الأكثر شعبية على حدّ علمي، ولقد سكنتْ كآبة قصته روحي. إنه يدحض بدقة كبيرة العديد من الحلول الزائفة التي نكذب على أنفسنا بها. فدوماً نحاول إقناع أنفسنا بأن الطغيان هشَ ولا بدّ أن يتهاوى في نهاية الأمر. لقد شاهدنا مثالاً على ذلك الطغيان في أوروبا الشرقية، وأمضينا عقوداً من الزمن نقول لأنفسنا أنه لا بد أن ينهار ذلك الطغيان هناك – ولكن يخاطبنا هذا الإغريقي القديم، محذراً أنّ الأحداث في حالة الحرب لا تسير دائما كما ينبغي لها، هذه قاعدة يسري مفعولها على أي شيء آخر
«فكّر، أيضاً، بالجزء الكبير الذي يلعبه القدر بحيث لا يمكن التنبؤ به في الحرب: فكّر في الأمر الآن، قبل أن تدخل غمار الحرب فعلياً، فكلما طال أمد الحرب، ازداد عدد الأمور التي تخضع للمصادفات وحدها، ولا يمكن لأحد أن يستكشف عمقها: علينا أن نلتزم بنتائجها بصمت في الظلام. يفعل الناس الأمور بطريقة معكوسة عندما يدخلون غمار الحرب، حيث أنهم يتصرفون أولاً، ثم يبدؤون بالتفكير، بعد أن يكتووا بنار المعاناة / ثيوسيديدز
وعلى الرغم من وضوح حسن نوايانا، بدأت الأمور تتكشّف عندما وصلنا إلى تلك الصحراء. فبعد أن تمّ تشتيت حركة طالبان، استجمعت قواها من جديد. ولم يعد يمكننا السفر في الطرق السريعة من دون حراس – بل من دون دروع أيضاً. وجّهتْ صديقتنا أمريكا جامّ غضبها على البريئين، بل على المارة الذين لا علاقة لهم بأي إجرام. كان ذلك النوع من التصرف معركتها هي، وليس معركتنا بأية حال، ليس بعد على أية حال. لم نشارك صديقتنا سلوكها هذا إذاً. ولكن طريقتها تلك في التعاطي مع الأمر شتتت انتباهها بعيداً عما يجب فعله. وازدادت الامور سوءاً بسرعة، بالنسبة لنا، وللجميع هناك
ذهب الكنديون من كابول إلى قندهار. كان يدور قتال عنيف هناك، وكانت وحدة العناية المركزة مزدحمة دوماً في المستشفى الميداني الصغير الذي كان يديره الكنديون في قندهار. كان عبء العمل ثقيلاً جداً وتم تدوير الوحدة الكندية العسكرية الصغيرة المكونة من جراحين، أطباء باطنية، وأطباء تخدير بسرعة، مما أنهكهم، فاتصلوا، طلباً للمساعدة. وقررتُ الذهاب
لم أكن الوحيد، بل الآلاف من الرجال والنساء الآخرين قرروا الذهاب أيضاً – لم يكونوا جنوداً فحسب، ولكن دبلوماسيين، صحفيين، وناشطي إغاثة. ذهب بعضهم بدافع خدمته الوظيفية، ولو جزئيا، ولكن يكمن السبب الأهم لذهابهم في أنهم كانوا متحمسين بهذه الروح الجماعية. تبددت حالة الضجر والملل للحظة، إذ لا يستطيع أحد مقاومة روحٍ جماعية جامحة تكتسح الجميع. إننا مبرمجون في جيناتنا على الاحساس بالحميّة القبلية، مهما كان رقيّ تفكيرنا التحرري. نحن نعيش حياة السلام والهناء في وطننا؛ نضع خوذات الدراجات وأحزمة الأمان ونذهب إلى العمل في الوقت المحدد، ثم نذهب إلى صالة الالعاب الرياضية بعد ذلك في محاولة لتخفيف وزننا. صغرت في عيننا كل تلك الحياة الهانئة بالمقارنة مع فرصة خوض حرب عادلة
«اعتمدت محاكمتهم للأمور على أماني عمياء أكثر مما اعتمدت على تنبؤ عقلاني سليم؛ إنها عادة منتشرة بين جميع الناس، لذلك تجد الإنسان يلجأ إلى الأمل الكاذب لتعزيز ما يتمنى، بينما يلجأ إلى العقل الحصيف ليجد طريقة ينفي بها ما لا يرغب / ثيوسيديدز
لست متأكداً تماماً متى أصبح من المؤكد أن الغرب سيخسر في أفغانستان، ولكنه أصبح أمراً بادياً للعيان في ربيع عام 2007. وكانت هناك علامات مثيرة للقلق بالفعل، ثم كانت عملية تحويل أفغانستان إلى حالة تشبه حالة العراق بالفعل على قدم وساق: تجنب تنظيم طالبان خوض المعارك النارية مع الغرب في ذلك الوقت، مفضلاً استخدام العبوات الناسفة المكونة من طناجر الضغط المملوءة بالوقود والأسمدة. كان الجنرالات الكنديون يتفاخرون بنسبة قتل تبلغ مائة لواحد، ولكنّ هذا ينطبق على عمليات إطلاق النار من العام السابق أكثر مما ينطبق على هذا النوع من الحرب. ففي الليل يحفر الرجال فتحات لوضع العبوات في الطريق. وفي الصباح يعثر الجنود عليها
حاول الغرب طوال الوقت أن يقنع نفسه أنه كان موضع ترحيب. أجرينا استطلاعات رأي تسأل البشتون إذا كانوا يؤيدون وجود قوات حلف شمال الاطلسي في بلادهم. ومما لا يثير الدهشة، كانت الإجابة في الغالب «نعم»، لأننا كنا المشرفين على الاستطلاع
كنا نقيّم نجاحنا بعدد العيادات التي بنيت، والمدارس التي فتحت، والأطفال الذين تم تطعيمهم. أما طالبان فكانت تقيّم نجاحها من خلال موافقة المزارعين على أي شيء يقولونه لهم عندما يقضون الليل في مركباتها. فهم رجال يتحدثون لغتهم ذاتها، ونشأوا في الوادي المجاور لهم. وفي الصباح، عندما يجدون أن الصواريخ لم تضرب منازلهم، وأن طابور رجال طالبان قد رحل، يشعرون بالارتياح. ويتمنون لو أنهم يتخلصون من القلق الدائم الذي تسببه لهم الصواريخ
قرأت هيرودوت الملقّب «أبو التاريخ» في جنوب المحيط الهادئ، مدفوعاً إلى ذلك، مثل أي شخص آخر، من قبل رواية ذي إنغليش بيشنت للكاتب أونداتجي. ولكن ثيوسيديدز هو الذي يقدّر هدوء العاطفة فوق كل شيء ويرفض الأساطير والقوى الخارقة. لا تتدخّل الآلهة في الحرب البيلوبونيسية. هناك رجال فقط يحرضهم الغرور والمشاعر. امتد البحر بلونه الببيذي ممتداً من قاربي نحو الأفق، وعلى الرغم من أنّ هوميروس كان بحوزتي ، إلا أني فضلتُ الحكمة الأبوية التي أحظى بها في كتاب ثيوسيديدز الوثائقي الأول بكل ما فيه من طمأنينة، وهو يحذرني من عواطفي الخاصة. كأنه يخاطبني قائلاً: أعرف أنك مرهق. وأعرف أنك تصبح في شدة التشاؤم عندما تتراخى عزيمتك، بينما تحلّق في قمة التفاؤل عندما تملؤك البهجة. ولكن حذارِ من هذه المشاعر، فهي متقلبة. قد يكون ما تراه أمامك منظر غروب جميل، وقد تكون الرياح مناسبة لشراعك الآن، ولكن من يدري ماذا تخفي لك الرياح بعد قليل؟
لقد عبرت المحيط مع صديقي ثيوسيديدز. ولهذا السبب عدت إليه. وبينما كنت أحزم أمتعتي على عجل قبل أن أغادر، وضعت كتبي المفضلة، وتلك الكتب التي لم أقرأها بعد في حقيبتي. تفكّرت للحظة، ثم وضعت كتابي المفضل هذا أيضاً. لا بدّ أن تكون قدرته الرائعة على أن يجعلني أحبس أنفاسي مفيدة لي هناك. لقد أحببت كتاباته بينما كنت في عرض البحر، لذا لا بد أن يكون أكثر نفع لي في حالة الحرب. لم يكن يراودني أدنى شك في صواب ما أفعل. بل حتى ثيوسيديدز ينصحك بالإقدام على فعل ما تؤمن به. في نهاية المطاف، يؤمن الكنديون بمسؤوليتهم تجاه حماية معتقداتهم
في قندهار، كنا نتناوب على إلقاء محاضرات في إحدى الخيم التي اعتبرناها قاعة اجتماعات لنا. تفرض الحرب تدريجياً على الأطباء حالة من إبداع آليات جديدة للعناية بالإصابات لم تكن تخطر على بالهم من قبل. لقد غيّرنا كلّنا من منهجية تعاملنا مع الإنعاش، نقل الدم، وإدارة ما بعد العملية الجراحية. بدأ الجراحون بالحديث عن فلسفات الاكتفاء بالحدّ من الضرر - محاولين القيام بالحد الأدنى الضروري، فقط للإبقاء على حياة جرحى المعارك وترك ما يمكن تأجيله من مشاكل صحية للمرضى أنفسهم ليتعاملوا معها فيما بعد. كانت هذه الأفكار تتحول إلى منهجية عمل سترافقنا عندما نعود إلى الوطن، وستؤثر على طريقتنا في التعامل مع مرضى الإصابات لآخر يوم من ممارستنا الطبية
ألقيتُ محاضرة عن الدور الذي تلعبه الالتهابات في الحرب في مرحلة وقوع الإصابة ثم بعد العمل الجراحي، وأخيراً بالمعنى الوبائي للكلمة. تحدثتُ عن الانفلونزا الاسبانية عام 1917 ، كما تحدثت بكل تأكيد، عن طاعون أثينا، وما ذكره ثيوسيديدز عن ذلك. تنتشر الأوبئة في ساحات المعارك، كما تعقّد الالتهابات الأمر بالنسبة لجروح المعارك لذات السبب: الموت – موت الأنسجة، موت النظام الاجتماعي، وموت المثل العليا – إنها العدوى
بينما كنت أتحدث، لاحظتُ أحد الجراحين في الخيمة، وهو عقيد شاب، أشقر وقارئ جيد، يصغي لما أقول بكل انتباه. وكان يقرأ ثيوسيديدز أيضاً، ويفوقني بأشواط في فهمه. كان يعلم ما سيحدث