استخدمتْ صديقتي أنجيلا يديها الاثنتين محاولة تثبيت خيط تنظيف الأسنان على السن الأمامي في فم ابني زيف، فصدر عنه صوت «أغااا...». خيط تنظيف الأسنان مربوط بخيط مجدول مثبّت بالباب الأمامي لشقتنا. يتلخص دوري في أن أغلق الباب بشدة بينما يقوم صديقنا بريندون باستخدام هاتفه ليصور ما يحدث واقفاً في الردهة المقابلة. ولكن في البداية يجب أن تثبّت أنجيلا الخيط على السن بشكل جيد. يَصدر نفس الصوت عن زيف مرة أخرى ولكن بجدية أكبر هذه المرة، ثم ينزلق الخيط عن السن
تقول أنجيلا بإحباط، «ماذا؟» وتسحب أصابعها من فمه المليء باللعاب
يقول زيف، «ثبتيه أكثر...،» ولكن فات الأوان. كانت كل هذه الفكرة التي تقتضي قلع سنه من خلال هذه الطريقة الكلاسيكية التي تتطلب تثبيته بمسكة الباب فكرته هو، وهو مصمم أن ينفذها، فهو مولع بهذا النوع من الأفكار: إنه يعتبرها مَهَمة تتطلب شجاعة ً ونزف دم وبعضاً من الفيزياء، وهذا ما يجذبه إليها. أما بالنسبة لي فقد كنتُ أمرّ بيوم عصيب – حيث لم يجْرِ شيء اليوم كما خططتُ له – وأنا سعيد بالانتهاء من هذا اليوم مع مساعدة ولدي على خلع سنه فربما يكون نجاحي في هذا الأمر تنفيس عن مشاعري السلبية التي عانيتها طوال اليوم. من النادر أن تتّحد الأبوة مع التنفيس عن المشاعر في الوقت ذاته
وكما يقولون، قلع السن من أصعب الأمور. أغلقنا الباب بعنف وخرج الخيط من فم ابني لكن دون أن يتم قلع السن. الأمر الأصعب من أن تقلع أسنانك هو أن تخسر أحدها. ربما كان فقدان الأسنان أحد أكثر الأمور قطبيّة في حياة الإنسان: فهو فترة طبيعية من حياة الطفل الصغير والرجل العجوز، لكنه غير طبيعي أبداً في المرحلة الفاصلة بين تلك المرحلتين، حيث أنه لا يحدث إلا في حالات الإدمان على المخدرات، أو عند الحمقى الذين يمارسون رياضات عنيفة كالهوكي مما يجعلهم يخسرون أسنانهم، أو في أبشع الكوابيس التي يمكن للإنسان رؤيتها
إنّ رؤية أسنانك تتساقط من أكثر الكوابيس انتشاراً. إذا طبعت في غوغل الكلمات التالية «ما تفسير الحلم الذي ترى نفسك فيه...» فمن المرجّح جداً أن تجد التكملة الغير متوقعة: «تفقد أسنانك»، بدلاً من «تطير»، أو حتى «تموت»، ستكون محظوظاً جداً إن لم تشاهد حلماً كهذا من قبل. إنه بالفعل كابوس مرعب. وبالطبع تعتبر التفسيرات التي يمكنك أن تحصل عليها من كافة أنواع علماء النفس، المحللين، وأطباء الأسنان غريبة جداً ومتنوعة لكنها لا تسعفك بأي نوع من الراحة أو الاطمئنان. من المتعارف عليه تقليدياً أنك إن شاهدت نفسك تفقد سنّاً في الحلم فهذا يمثّل خوفاً عميقاً من أن تفقد سيطرتك على حياتك
عندما أنام أحلم بأنّ أسناني تسقط وتنخلع من مكانها وتتفتت إلى أجزاء صغيرة في فمي – أحياناً سن أو اثنين، ولكن كل أسناني في أحيان أخرى، وينتهي بي الحال في منامي وأنا أمضغ هذه القطع المتفتتة المدمّاة حتى أستيقظ على صرخة عالية. يحصل هذا الأمر معي مرة كل أسبوع تقريباً لأكثر من عقد من الزمن حتى الآن
مما يثير السخرية، أنّ عدم فقدان أسناني هو ما عرّضني للخطر في واقع الحياة؛ لأكثر من مرة، وبينما كنت أغطّي قصصاً بشكل متخفٍ، كان عليّ الادعاء بأنني متعاطٍ للمخدرات، ولكون أسناني كاملة تمّ الشكّ في أمري كمتعاطي للمخدرات حيث من المعروف أن المتعاطي يخسر بعض أسنانه. عندما أتيت للمرة الأولى إلى إحدى البلدات الصغيرة، التي عشت فيها لما يقارب السنة بداعي عملي، تعرّضت لضربٍ كان من المفترض أن يتسبب بخسارتي لأسناني بشكل فظيع. ومع ذلك لا أفقد أسناني إلا في الأحلام – من التأويلات الأخرى لهذا الأمر أنه حالة حداد نفسية على موت الطفولة وفقدان الاحساس بالأمان، أو أنه يشير إلى الرعب من فقدان شيء آخر، شيء هامّ جداً
بينما كانت أنجي تعيد تجهيز خيط تنظيف الأسنان ليأخذ شكل حلقة في نهايته من جديد قلتُ، «تعال يا زيف». وضعتُ إصبعي على سنّه وهززته بلطف. كان صغيراً جداً، وتردد في صدري صدى هذه الحركة – اهتزاز سنّه القاسي في لثته الطرية. لكنه اكتفى بالابتسام. وخطر لي أنه بعد فقده اثنين من أسنانه بطرق عادية هادئة (أحدهما بينما كان يتناول طعامه، والآخر بينما كان نائماً، عندما كان في منزل والدته) – قد يكون قلعه لسنه الحالي طريقته في السيطرة على الأمور: من خلال تصميمه على تضحيته الهائلة هذه ضمن شروطه الخاصة. إنه بهذه الطريقة يتخلى بنفسه عن سنه بدلاً من أن يفقده مجبراً. أريده أن يتمتع بهذا الشعور، وأريد تقديم أية مساعدة يمكنني منحها إياه
قلت له، «أرجِعْ رأسك للوراء، وتوقف عن رسم هذه الابتسامة على وجهك. اعبس كالذئب». وهذا هو معنى اسم زيف: الذئب – وهو يحب هذا كثيراً. أمسكتُ وجهه الناعم الدافئ بين يديّ ووجّهتُ أسنانه نحو المصباح المتدلّي من السقف كي أرى بوضوح. أدخلتْ أنجيلا ذاك الخيط الذي يشكل حلقة عند نهايته في فمه ووضعته حول سنه
قد يكون ما يفعله نوع من الهبة التي يمنحها لي أيضاً. سأغادر هذا المكان بعد أيام لأُمضي الأشهر الثلاثة القادمة بعيداً. شرحتُ مسألة سفري لزيف على أنني يجب أن أغادر في رحلة عمل وأن أُمضي بعض الوقت مع أبي الذي يعاني من متاعب صحية. يتمتع زيف بحدس قوي عندما يتعلق الموضوع بأمور كهذه – من يعلم كم سنّ سيفقد عندما أراه في المرة القادمة؟ وربما يتصوّر أنه هناك احتمال كبير في أنّ جنية الأسنان ستكون أكثر كرماً في منزل أبيه هذه الأيام – وعلى الأرجح إنه محق في ذلك
سألته، «جاهز؟» هز رأسه قليلاً. أرختْ أنجيلا الخيط، واتجهتُ إلى الباب الذي تركه بريندون مفتوحاً، والآن كلنا في مواقعنا – الخيط مشدود من سنه إلى مسكة الباب. بدأت العدّ, «1,2...». ثم أغلقت الباب بشدة!
طار الخيط، وصرخ زيف، إذْ حلّق سِنه في الهواء وكأنه مزيج سريالي من عالم الأحلام. صرخنا مهللين، ووقف الولد مذهولاً وسعيداً – وما يزال فمه مفتوحاً ويشير مكان الدم إلى السن المقلوع. ثم هزّ رأسه سائلاً، «أين سنّي؟» تفقدنا الخيط، لكن لم يكن السن مربوطاً به. لا نستطيع إيجاده
ولسوء الحظ كانت الفوضى عند الباب كبيرة: صناديق لم ننتهي من ترتيب محتوياتها، أمتعة لم يتم توضيبها بشكل نهائي بعد، وصناديق إعادة التدوير. إنّ السن صغير جداً بحيث يمكنه أن يختفي في الفراغ الصغير الفاصل بين قطع ألواح الأرضية الخشبية . يرجع السبب في ضياع السن إلى أنني، وكما هو حالي مع الكثير من الأمور هذه الأيام، لم أفكر ملياً قبل الاقدام على تصرفاتي – أو ربما يرجع السبب إلى قلقي الشديد من حصول أي شيء خاطئ يسبب الأذى لولدي الحبيب مما أنساني التفكير في احتمال أن يطير السن خلال قلعه. بدأنا بإفراغ الصناديق وحقائب الملابس، ثم جثوت على ركبتيّ مع زيف لنتفحص بدقة كلّ نواحي الأرضية
بعد برهة، قال بريندون، أنا على ثقة كاملة أنه يمكنه أن يكتب ملاحظة لجنية الأسنان يخبرها فيها بشأن سنّه، وستتأكد هي من صحّة الأمر لأننا سنضع إمضاءنا على الملاحظة كشهود على أنه قلع سنه. لقد سمعت عن أشخاص فعلو ذلك بنجاح
فأجبته، «لا،» وكانت لهجتي حادة وحاسمة أكثر مما يجب. وبدأتُ أزيل اللوحات المثبتة على الجدار لعلي أجد السن هناك. وكانت فرحتي غامرة، عندما وجدته محشوراً في الزاوية خلف مبرّد الهواء، مختفيا بين الغبار والتراب ورقائق الطلاء المتقشرة الواقعة هناك، كان سن ابني الأبيض الصغير بالغ الجمال. نظّفته بيدي ثمّ سلمته لزيفي. نظرت إلى زيف لأرى بقعة الدم على لثته مكان السن المقلوع عندما يرسم على وجهه علامات الزمجرة لنرى كلّ أسنانه المتبقية – إنه أشبه ما يكون بالذئب الذي يترك شيئاً يفلت منه ثم يمسك بشيء أفضل بكثير.
وضع سنه بعناية في كيس أحمر صغير، ثم دسّه تحت وسادته. عندما حان وقت النوم، قرأتُ له قصة، ثم أطفأت الضوء. طلب مني زيف أن أضمّه ريثما ينام. قلت له وفمي ملاصقٌ لأذنه، «أتمنى لك أحلاماً سعيدة يا حبيبي». حركتُ لساني في فمي لأتفقد أسناني. أخذتُ نفساً عميقاً، ثم أغلقت عينيّ