بقلم | رسل سميث
يعود سبب عدم قدرتي علي ثني آصابعي علي شكل قبضة إلي تشوه خلقي
قمة المآساه بالملاكمه عندما تكون غير قادر علي آن تواجه لكمه واحده
نظريّاً لا يمكنني أن أشارك في أي عراك مطلقاً. كان والدي أيضاً يعاني من الإعاقة ذاتها – عدّة أصابع في يده ملتحمة العظم، وتنثني بالاتجاه المعاكس – ومع ذلك كان تشكيل أصابعه مختلفاً عن الحالة في أصابعي بحيث كان قادراً أن يثنيها وقد مارس الملاكمة في مراهقته. لا أستطيع أن أستوعب حقاً الوضع الصعب الذي كان يعاني منه. لقد تمّ إجراء عمليات جراحية لكلينا عندما كنا صغيرين لإزالة العظم الملتحم والشظايا العظمية التي تسبب المشكلة وقد عانى كلانا أيضاً من النهايات العصبية المكشوفة بسبب الزوائد العظمية المبتورة. وحتى يومنا هذا، إذا نقرتُ على إحدى النهايات العصبية تلك تنتج رجفة غريبة في ذراعي. لا تعيقني حالتي هذه من القيام بأيّ من الأمور التي أريدها، ولكنني لا أستطيع أن أتخيل حتى ولو في الأحلام أن ألكم أيّ شيء
سيكون ذلك مؤلماً جداً. لقد عانى والدي من الغرغرينا أيضاً بعد إحدى العمليات الجراحية التي خضع لها مما أدى إلى بتر جزء آخر من أحد أصابعه. لم تكن قبضة والدي قوية ولم تكن لكمته لتسبب ضرراً بالغاً بقدر ما كانت تسبب له ألماً حاداً. وعلى هذا النحو لم يكن والدي بأي شكل من الأشكال في وضع جسدي يسمح له أن يلكم أي شيء
ومع ذلك، كان والدي يستعمل اللّكم وهو لم يتحدث مطلقاً عن نجاحه أو فشله في ذلك. لقد كان جيله مختلفاً: لم يكن يُسمَح لهم بأن يبتعدوا عن ممارسة بعض الأشياء بسبب إعاقة ما أو حساسية ما. كان هناك افتراض يقضي بأن لكلّ شخص جانبُ ضعف من نوع ما، ولذا كان المغزى من ممارسة رياضات مؤلمة يظهر في إمكانيتك التغلب على نقطة ضعفك تلك
اشترى لي أبي قفّازين عندما كنت طفلاً. وبالكاد كنت أستطيع أن أضعهما. وثبّت كيساً للملاكمة في الطابق الأرضي. وكانت ضرباته العنيفة للكيس تهزّ المبنى كلّه. كان والدي عصبيّأً في بعض الأحيان. مرة كان في المكتب وتلقى بعض الأخبار السيئة، فما كان منه إلا أن ضرب الجدار بيده على مرأىً من سكرتيرته بشكل تسبب في خرق ذلك الجدار. (بالتأكيد لم تكن هذه لحظة ممتعة لها. ولكن حدث هذا الأمر في السبعينات، لذا لم يُتّهم بتحويل مكان العمل إلى جوّ عدائيّ، انتهى الأمر بأن أصلح الجدار على نفقته الخاصة فحسب) وكنتيجة لذلك جُرحت يدُه وكان عليه الذهاب إلى المشفى. وقد استمتع بهذا الأمر لبعض الشيء. صُدم الطبيب المعالج لدى رؤية يده المشوّهة والمدمّاة: لم يستطع أن يتخيل الكيفية التي تشوّهت بها هذه اليد لكي يبدأ بعلاجها. اعتقد الطبيب أنه يرى أمام ناظريه يداً متأذية بشكل فظيع. تركه والدي في ذهوله ذاك لبرهة ثم شرح له أن الأمر كان مجرّد جرح فقط
لقد أردتُ أن أصبح شخصاً يمكنه الضّرب أيضاً. عندما كنت في الحادية عشرة من عمري كنت أدرس في مدرسة خاصة في إنكلترا و نشأ خلاف بيني وبين ولدٍ هنديّ نحيل طويل يُدعى غونراج . وانتشر في المدرسة خبرٌ يقول بأنني قد أُهِنتُ بشكل ما وبأنني يفترَض أن أدافع عن كرامتي
ما زلت أذكر وقوفي أمامه في ملعب المدرسة الإسمنتي محرّكاً يدي بقوة نحو الأعلى لأضربه بيدي المفتوحة على سنّه الأمامي. ثمّ وقف كلّ منّا متجمّداً للحظة. وما لبث الدّم أن سال من أنفه. لا أعتقد أني ضربته على أنفه، لكنه على ما يبدو رعف أنفه من شدّة الموقف
ثمّ استدار في وقفته. كان هناك ابتسامات وصيحات خلفي. وشعرتُ بسرور غير متوقع. ولكن كان هناك جرح في يدي وبدأتْ تنتفخ وتؤلمني. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم سمعتُ أنّ غونراج كان يبكي. مررتُ بجانبه بينما كان جالساً على الأرض مستنداً إلى الجدار والدم يسيل من ذقنه ويظهر بدور الضحيّة
وعندئذ أدركتُ أنه كان ضحيّة حقاً. لمْ أشأ أن أضربه، بل لم يكن لدي أيّة ضغينة تجاهه في الواقع. وكانت يدي تؤلمني بشدّة
تعرضت في إحدى المرات لأن يضايقني أحد الشبان، حيث كنتُ أقف في دوري لأحصل على الطعام وإذ بمجموعة من الشبان الذين يبلغون الثامنة عشرة من عمرهم يحتلّون دوري. فصرخت بصوتي الجهوري، «عفواً.» استدار أحدهم وحدّق باحتقار في وجهي الأشقر الجميل. وقال ببطء، «هل تعلم بأنه ليس عليك الانحناء لكي تصل إلى مفصل قدمي؟» لقد كان صمتي عن الردّ أكثر إذلالاً لي من الضحكات العالية التي تلتْ تعليقه الساخر
ولذا تراني لا أستطيع إلا أن أفكر بل أن أحلم بأن أضرب أحداً. ما تزال تراودني أحلام اليقظة بالعراكات التي تحدث في البارات، بتهشيم حنك أحدهم، ثم رفع ركبتي إلى الأعلى لأضرب أنفه فيرتدّ رأسه إلى الخلف. كلها تخيلاتٌ تصويرية دموية تعيش في رأسي. أتساءل إذا كانت النساء تتصوّر أموراً كهذه
لم أشعر بالإثارة في حياتي يوماً كما شعرت بها عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري وذهبت مع والدي لأشاهد قتالاً حقيقياً. لم أتوقع مشاهدة العنف الذي كان يراودني في أحلامي: كنت أتوق بشدّة للبطولة والقوة ورفقة أصدقاء أبي مما كان يعني دخول مرحلة الرجولة بالنسبة لي
حدث ذلك في هاليفاكس مدينة الملاكمة في كندا. وكانت تلك الفترة أيضاً ذروة الملاكمة المحترفة في أمريكا: حيث حقبة علي وفورمان وفريزر. كان هناك عائلتان شهيرتان للملاكمة في هاليفاكس: عائلة كلاركس البيضاء اللون وعائلة غريز السوداء اللون
كانت تتمّ النزالات الكبيرة للملاكمة أوائل السبعينات في هالفاكس عند الفوروم ذو شكل الكهف الإسمنتي في منطقة نورث إند والذي كان يُستخدم للعروض الزراعية أيضاً. كانت تفوح من المكان دوماً رائحة القشّ والبول حتى عندما كانت تُستعمَل لإجراء سباقات الشاحنات العملاقة. كان لدى أبي مجموعة من الأصدقاء الذين ينتمون للطبقة الوسطى والذين كانوا يحظون دوماً ببطاقات حضور مميّزة للنِزالات بحيث يجلسون قرب الحلبة. من بينهم، كان هناك طبيبٌ ومحامٍ ومصوّر وشخص يمتلك سلسلة متاجر ألبسة ومقدّم برامج فنية
وقد ترك أحدهم مهنة المحاماة ليصبح مدير أعمال ملاكمٍ من الوزن الثقيل. كان اسم الملاكم تريفور بيربيك – إذا بحثتَ عن هذا الاسم فسترى أنه كان بطل العالم للوزن الثقيل في مجلس الملاكمة العالمي عام 1986، كما كان آخر رجل واجه محمد علي (فاز بيربيك، وكان علي في التاسعة والثلاثين من عمره). رتب صديق والدي الأمرَ كي أذهب مع بعض أصدقائي لإجراء مقابلة مع بيربيك في النادي الذي يتدرّب فيه ليتمّ نشْر هذه المقابلة في جريدة مدرستنا الثانوية. كان النادي يقع في نورث إند، في كراج سيارات لا يحوي تدفئة. أجاب بيربيك على أسئلتنا بينما كان يقوم بتمارينه على لوح خشبيّ مائل. ووضع ذراعيه حولنا نحن الثلاثة لنأخذ صورة معه. كنا شديدي الفخر بأنفسنا. وكان فخرنا ينبع أساساً كما أعتقد من مجرّد فكرة أننا دخلنا منطقة نورث إند
أصدقاء أبي كانوا رائعين. وكنتُ في ذلك الحين نحيل الجسم، ووقوف خمسة رجال كبار معاً وأنا بجانبهم بالنسبة لي كان أمراً ضخماً بشكل لا يوصف، وكأنهم فريق مهمّاتٍ خاصّة. وأجد أية نكتة يقولونها مضحكة جداً. بل أنّي مستعدّ لتلقي أيّة إهانة منهم على أنها مزحة لطيفة. عندما يزورون بيتنا، هذا يعني تواجد الشراب، بل الكثير من الشراب وكان منزلنا يضجّ بالضّحك والرائحة العطرة. كان لديهم دوماً قصص عن إطلاق النار وعن الطائرات. ودوماً توكَل إليّ مهمة تزويدهم بالثلج، وإخراج الثلج من القوالب البلاستيكية وإعادة ملئ تلك القوالب من جديد. لقد كنت خبير أعواد شراب السويزل والليمون. وتعلّمتُ صبّ الجعة بزاوية معيّنة
مازلت آشاهد الملاكمة كلما آستطعت باحثاً عن العنف و متآملاً آن آراه ثم ملتفتاً عنه عندما يآتي
عندما دخلنا إلى الفوروم في ذلك الوقت كان أشبه ما يكون بانحدار إلى مرحلة بدائية. كان مظلماً وقذراً. لمْ أدركْ أنّ الحشد سيكون مخموراً أيضاً وسيطلق صيحات متعطشة للدم، بل وعنصريّة في أغلب الأحيان. عندما تبدأ نِزالات المحترفين، تدرك خطر المشاهدة أو مجرّد أن تكون في المكان نفسه مع جمهور كهذا. إنّهم صادمون جداً ومرعبون جداً وفظيعون جداً. تجد أن جسدك يكاد يختنق من شدّة الأدرينالين منذ انطلاق الجرس الأول للمباراة. كنت بجانب الحلبة تماماً. وأرى العرق المتناثر وأشعر بأثر الضربات والكدمات الناتجة عنها تحت العينين وفوق الكليتين. وبدأت الصرخات المطالبة بالأذى والموت تعلو جداً. من المستحيل تقريباً أن ترى قتالاً عنيفاً أمامك دون أن تشعر بالرغبة في الوقوف والتدخّل فيه، وعلى هذا النحو ترى أنّ الجميع يقف على قدميه في اللحظات الأعنف حتى أنك ترى الحشد المكوّن من 6000 شخص يريدون جميعهم القتال
كان الحَكَم في آخر جولة من تلك المباراة غير مبال، وقد انتهت بسلسلة من اللكمات من طرف واحد والتي دامت حتى بعد انتهاء المباراة بقليل. كان رأس الرجل مليء بالكدمات وكان الدم يتناثر من الجرح الذي أصيب به فوق عينه. وبما أني كنت بجوار الحلبة فقد تناثر الدم عليّ. كان دافئاً على وجهي ويدي. ما زلت أذكر مشاهدتي نقاط الدم تلك على جاكيتي الصيفي الباهت كما أذكر الرعب الذي ملأني والذي تحوّل إلى شعور بالغثيان
ولكن كان القتال قد انتهى وبدأت الهتافات التي تشيد بالشجاعة المتبادلة للملاكمَين. وبينما كنت ألحق الحشد المثرثر خارجاً مع أبي وأصدقائه المثرثرين بسعادة، شعرتُ بالذعر يتحول إلى نشاط وخِفّة – الشعور نفسه الذي ينتابك عندما تتجنب الاصطدام الذي كان وشيكاً جداً بسيارة أجرة أو السقوط من نافذة. إنّك تنفجر ضاحكاً
ولقد بقيتُ لأسابيع تلتْ أخبر أصدقائي كم كان ذلك القتال حماسياً ورائعاً. ولكنه كان مثيراً للغثيان وبارداً ولم أرغب بأن أرى أمراً مشابهاً مرة أخرى. وبالطبع لقد حضرت مباريات مشابهة بعد ذلك – وما زلتُ أشاهد الملاكمة كلما استطعت، باحثاً عن العنف ومتأملاً أن أراه ثم ملتفتاً عنه عندما يأتي
لقد سُجن تريفور بيربيك لاغتصابه حاضنة أطفال في الخامسة عشرة من عمرها عام 1992 ثم قُتل في باحة كنيسة جامايكية، حيث تلقى ضربة قوية على رأسه بأنبوب معدني عام 2006
يعاني ابني من مشكلة الاعاقة ذاتها باليدين مثلي ومثل أبي. وهو لا يستطيع أن يطوي أصابعه لتأخذ يده شكل القبضة أيضاً. وهو مثلنا أيضاً يشعر بالإثارة فيما يتعلق باستخدام الضرب. سألني ذات يوم عندما كنت أوصله إلى المدرسة فيما إذا كنت طرفاً في عِراك يوماً ما. وأخبرته عمّا فعلتُه بغونراج عندما كنت في الحادية عشرة من عمري. ثم بدأتُ أبكي في الشارع حيث كنا نمشي. كان يشعر بالذهول مما يرى: لِمَ كنتُ أبكي وقد انتصرتُ في القتال؟ أخبرته أنّ أشخاصاً مثلنا لا يمكنهم أن يدخلوا في أيّ عِراك لأنهم سيُهزَمون دوماً. إنّه لا يصدّقني ولا بدّ له أن يضرب أحدهم يوماً ما ليكتشف ذلك بنفسه